منذ أصدر الاشتراكيون الثوريون بيانهم يدعون فيه إلى التصويت لحمدين صباحي في مواجهة قائد الثورة المضادة، قرأت العديد من الاعتراضات وناقشت بعضها وزادتني كلها اقتناعا على اقتناع بضرورة التصويت لحمدين. سأحاول فيما يلي أن أشرح لماذا من شأن موقف المقاطعة أن يقوي الثورة المضادة، يقوي السيسي، ويقوي دولة مبارك. على عكس أصحاب هذا الرأي، فإن المقاطعة ليست من الثورية في شيء.
يدعو الكثيرون إلى مقاطعة التصويت باعتبار هذا “يحرج النظام دوليا”، وهذا من وجهة نظري أضعف حجة، بما لا يقاس. عن أي “عالم” نتحدث؟ وماذا سنكشف لهذا “العالم”؟ نكشف لأمريكا وبريطانيا وروسيا والصين أن هناك جزءا كبيرا من الشعب المصري لم يذهب للانتخابات!؟ وماذا يعني ذلك؟ وهل فرق هذا في تأييدهم لحسني مبارك؟ هل فرق هذا في تأييدهم لأي ديكتاتور يخدم مصالحهم؟ الغريب في هذا المنطق أنه يعتبر أن “الدول الغربية” مهتمة بالديمقراطية في مصر! غالبا من يقول بهذا لم يذق طعم العصا الكهربائية الأمريكية أو رائحة غاز الأعصاب الأمريكي. إن أي خلافات بين الطبقة الحاكمة المصرية وسيدتها الأولى الطبقة الحاكمة الأمريكية هي “مشاجرات زوجية” إذا استعرنا تعبير وزير الخارجية. اختلافات بسيطة حول أفضل الطرق لقيام الدولة المصرية بدورها المرسوم لها والذي تلعبه بكل حماس إقليميا. جدير بأصحاب هذا المنطق أن يتذكروا مساندة هيلاري كلينتون للمجلس العسكري عند ارتكابهم لمذبحة ماسبيرو إذ قالت إن أمريكا تتفهم أن المجلس العسكري يحاول أن يفعل ما لم يفعله أحد من قبله، وهو حكم البلد بدون جهاز شرطة. ولذا فإن الأمريكان عليهم أن يساعدوا الدولة المصرية على إعادة بناء جهاز شرطة. سيظل الأمريكان “يتفهمون” كل التجاوزات من جانب الدولة المصرية إن دفعت في اتجاه تحقيق الاستقرار الرأسمالي. كلما رأيتم مدرعة من المدرعات الأشبه بالخيال العلمي الجديدة للشرطة المصرية تذكروا كم “تتفهم” الولايات المتحدة ضرورة تحقيق الاستقرار والقضاء على الاحتجاجات الديمقراطية.
"تمثيلية الانتخابات"
هناك من يقول إن الانتخابات تمثيلية الترشح أو التصويت فيها ترويج للنظام أو تشويه للوعي العام. وهذا المنطق بالطبع به بعض الوجاهة، ولكنه لا يكتمل إلا إذا أضفنا أن كل الانتخابات يمكن اعتبارها تمثيليات. فالشعب فعلا لا يختار ممثليه بحرية، وعلى رأسهم بالطبع رئيس الجمهورية. فما يتحكم في الانتخابات في النهاية هي سلطة رأس المال: وسائل الإعلام، رجال الأعمال، النقود السائلة وغير السائلة والظاهرة والباطنة والخفية والمخفية، مؤسسات الدولة، شبكات المصالح، موقف الجيش والشرطة، وغيرها. وأمام كل هذه الرياح العاتية يقف المواطن البسيط المفترض أن يشعر بأن صوته في هذا الصندوق سيضع من ينوب عنه هو، في مواجهة كل هؤلاء، في كرسي الرئاسة! طبعا كل الانتخابات في ظل الرأسمالية تمثيليات. ولكن بالنسبة للثوريين، هي حلبات للصراع. هي فرص لمقاومة كل تلك القوى، لا الانتصار عليها. هي خبرات يجب المرور فيها حتى تتيقن الجماهير من أنها تحتاج إلى نظام جديد، يعبر عنها وعن مصالحها. إذا اضطرت الطبقة الحاكمة إلى إعداد وإخراج تمثيلية فعلينا أن نقف على خشبة المسرح نرفع صوتنا ضدهم. قانون تنظيم الإضرابات تمثيلية – فهل يمتنع العمال عن الإضراب باعتباره حقا لهم يقره الدستور (التمثيلية)؟ هل يمتنع المحامون عن الدفاع عن المضربين بأن القانون (التمثيلية) أقر لهم هذا الحق؟
الفائز معروف
يقولون إنها تمثيلية بشكل خاص لأنها غير متكافئة، ولأن الفائز معروف. أولا، أريد أن أقول إن الفائز غير معروف. الفائز موجود بالفعل. إنه استفتاء على رئيس الجمهورية. لقد أعلنت الدولة أن السيسي قائدها ورئيس البلاد. لقد أعلنته الجماهير التي نزلت لتفويضه، متخطين رئيس الوزراء و”رئيس الجمهورية المؤقت”، قائدا للبلاد. السيسي هو حاكم مصر الذي لا ينازعه أحد الآن. وكان التصويت على الدستور، كما كان الجميع يعلم، تفويضا ثانيا له. والآن هو يسعى للتفويض الثالث. ليزداد قوة على قوة، وشرعية على شرعية، وشراسة على شراسة. وقد رفضنا، نحن الاشتراكيين الثوريين، تفويض السيسي لما أسماه “محاربة الإرهاب” وكتبنا آنئذ إنه يريد تنصيب نفسه قيصرا على البلاد، وأن التفويض يؤدي إلى انتصار الثورة المضادة، وكنا على حق، ودعونا إلى النزول للتصويت برفض دستور السيسي لرفضنا لمواد هذا الدستور ورفضنا التفويض الثاني له، واليوم ندعو للنزول للتصويت لحمدين صباحي لمعارضة التفويض الثالث وإضعاف شوكة هذا الديكتاتور الحالي.
إنها “انتخابات” غير متكافئة؛ هي أقرب إلى الاستفتاء على السيسي، فلماذا المشاركة؟ إن تصويتنا لحمدين صباحي هو صوت احتجاجي في الاستفتاء على قائدة الثورة المضادة. والتاريخ يزخر بالحركات الاحتجاجية في الانتخابات والتصويت الاحتجاجي. إن عدم التكافؤ هذا هو تعبير عن عدم التوازن بين قوى الثورة المضادة وقوى الثورة بالأساس. والمقاطعة تزيد من عدم التوازن هذا، بأن تضعف القوى الثورية وتكتم الأصوات الاحتجاجية.
"عدد الأصوات لن يفرق"
وهل يفرق أن يثبت السيسي حكمه بنسبة أصوات مرتفعة أو متدنية؟
اسمحوا لي أن أقتبس من أوراق حملة السيسي المسربة والتي تناقش هذا السؤال وتقدم الإجابة التالية: “هذه الحملة ليست فقط لتشجيع الناخب على النزول الفعلي (أنزل ليه إذا كانت النتيجة معروفة؟)، ولكن للحفاظ على مصداقية المرشح فترة ما بعد إعلان النتائج طوال فترة رئاسته.” بالضبط. هذا هو. كلما كانت الأصوات التي يحصل عليها السيسي في هذه الانتخابات/ الاستفتاء أكبر كلما زادت شرعيته وزادت قدرته على قمع الحركات الاحتجاجية والطبقة العاملة. ولذلك فإن كل صوت ننتزعه من السيسي أو نحرمه منه أو نعطيه لمنافسه يقلل من قدرته على القمع، بشكل يتناسب مع حجم هذه الأصوات. ودعوني أذكركم بأن الرئيس الوحيد التي استطاعت الجماهير انتزاعه من كرسي الحكم، بعدما ظل قابعا عليه في أواخر أيامه مشلولا لا يستطيع شيئا إلا مغازلة الجيش ورجاله “الذهب” كان منتخبا بنسبة 51 في المائة! نعم، نسبة الأصوات الحاصل عليها رئيس الجمهورية تصنع فرقا كبيرا في قدرته على الحكم.
إن التصويت في الانتخابات لا يمنحها شرعية، إلا التصويت بنعم بالطبع. إذا صوتت لحمدين صباحي في هذه الانتخابات فأنت تقلص من شرعية السيسي رئيسا وقائدا. أما إذا كنت تظن أن كل الانتخابات “غير شرعية” وأن أي انتخابات غير شرعية حيث تديرها الطبقة الحاكمة ككل، ودائما، لمصلحتها فإننا نراها صراعا للقوى، بين من ينظم الانتخابات لصالحه وبين الجماهير المسيسة التي لا تترك للطبقة الحاكمة شبرا واحدا لا تنازعها عليه حتى تنازعها في السلطة نفسها فتنزعها! إن كل انتخابات رئاسية بالنسبة لنا موقعة، وكل انتخابات برلمانية ونقابية واتحادات طلاب. كلها بالنسبة لنا مواجهات في سياق “حرب المواقع” ضد الدولة وأفكار الطبقة الحاكمة.
وبهذا المنطق يظهر أن المقاطعة في الواقع ستكون ملمحا من ملامح قوة الدولة وهيمنتها المبسوطة على جميع الصعد السياسية. فالطرف القوي هو من يستطيع أن يجعل غيره يخرج من الانتخابات قبل أن يدخلها أو يقعد عن التصويت لمنافسه. لقد كان العزوف عن التصويت في الانتخابات ملمحا من ملامح قوة دولة مبارك الفاسدة، إذ كانت الجماهير الواسعة لا ترى له بديلا. لقد كان من أهم أسس بقاء دولة مبارك (واستمرارها) هو اليأس من التغيير، والتطلع إما إلى “الخارج” أو إلى عزرائيل كقوى محركة للتاريخ. وعلى العكس كانت الانتخابات والاستفتاءات بعد الثورة أكثرها في تاريخ مصر من حيث نسبة المشاركة فيها. كانت روح الأمل والثقة في النفس والرغبة في التغيير وعدم الاستسلام قد دبت في الجماهير العريضة. فكيف ندعو إلى عكس كل هذا الآن. العودة إلى الميول التصويتية لعهد مبارك. إنك هنا بمقاطعتك تشارك في “التمثيلية” ولكن في دور المتفرج!
"الثورة لا تعرف حلول الوسط"
يقال إن سقف مطالب حمدين صباحي ليس مرتفعا بالقدر الكافي وإن “الثورة لا تعرف حلول وسط” وأن “الثورة في الشارع”. وفي رأيي فإن هذا المنطق يمثل خطرا على الثورة نفسها، على فكرتها وعلى موقفها الحالي وعليها عند اندلاعها مرة أخرى! أولا كل الثورات تعرف “حلول الوسط”. فالثورة الفرنسية العظمى اكتفت بإلباس لويس السادس عشر “قبعة الثورة” لمدة ثلاثة أعوام، فكان يحكم كملك ويرتدي قبعة “العوام” التي كانت قد أصبحت رمز الثورة! ولكن هذا “الحل الوسط” كما يبدو، وبدا، لا يمكن أن يستمر. ومع تجذر الثورة سعى الملك إلى الهرب فقُبض عليه وخلعت رأسه مع القبعة!
وفي الثورة الروسية قام البلاشفة بحشد الطبقة العاملة للدفاع عن حكومة كيرنسكي الوسطية التي كانت قد جرّمت الحزب البلشفي وأصدرت أوامر بالقبض على كل قياداته، وكان تروتسكي بالفعل في السجن. ولكنهم دعوا إلى الدفاع عنها على المتاريس في مواجهة جيوش الجنرال كورنيلوف الذي زحف على العاصمة لإسقاط كيرنسكي ووأد الثورة. (قال تروتسكي فيما بعد أن كورنيلوف لو كانت انتصر لكانت الفاشية كلمة روسية). كان الدفاع عن العدو كيرنسكي في هذه اللحظة ضرورة، وحلا وسطا، لوقف الثورة المضادة المسلحة والاستمرار بعدها في تعميق الثورة، وهو ما حدث وانتهى بالفعل بإزاحة كيرنسكي وانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية!
حلول الوسط هي التجسيد لتوازن القوى بين الثورة والثورة المضادة في أي لحظة من اللحظات. ولا يمكن أن تولد ثورة منتصرة. فالثورة بالتعريف عملية طويلة معقدة ومركبة، وليست حدثا يقع بين ليلة وضحاها، ولا هي ظاهرة تولد مكتملة، بل تتشكل وتتطبع ببرامج وقوة وتصميم الطبقات الاجتماعية المختلفة. إنها عملية تتألف من خطوات إلى الأمام وإلى الخلف وإلى الجنب، يتحكم فيها كلها، وفي نتيجتها توازن القوى الطبقي.
واليوم، ولا شك، الثورة المضادة منتصرة، والطبقة الحاكمة وحلفاؤها يحتفلون بالنصر على الثورة في ظل السيسي. وفي هذه الحالة نجد أنفسنا، وتجد الثورة نفسها، في موقف دفاعي محض انحدرت فيه المطالب إلى الإفراج عن معتقلي الثورة بالأساس. بل إن أجرأ ما قامت به القوى الثورية في الفترة الماضية كان الحشد للتجمع أمام قصر الاتحادية للمطالبة بإلغاء قانون منع التظاهر!
بل إن إلغاء قانون التظاهر مطلب وسطي للغاية. دعونا لا ننسى. لماذا لم تطالب المظاهرة بإسقاط الطبقة الحاكمة التي شرعت قانون التظاهر ذاته، والدولة التي تعتقل الثوار، وتقتل المعارضين، وتعذب في السجون، وتغتصب في الأقسام؟ لماذا لم تطالب هذه المظاهرة بتأميم الثروات الكبرى وإعادة توزيع الشركات والمصانع والمستشفيات على من يعملون بها، فهم أولى بإدارتها وأولى بتوزيع ناتجها؟
هل يعني هذا أن التظاهر من أجل إلغاء قانون التظاهر كان عملا “إصلاحيا” “يشوه وعي الجماهير” ويقصر عن رفع شعارات ثورية “حقا” و”الثورة لا تعرف حلول وسط”!؟
إنه توازن القوى يا رفاق الثورة. لو شارك في تلك المظاهرة مليون مواطن لتغيرت طبيعتها لا شعاراتها فحسب. نحن الآن في موقف الدفاع، والصراع للحفاظ على القليل من مكاسب الثورة شبرا شبرا، والوقوف في وجه المزيد من الخسائر للثورة. وبهذا المعنى يكون موقف المقاطعة تسليما بالانتصار النهائي للثورة المضادة لا موقفا أكثر ثورية وراديكالية. والثوري في رأيي لا يستسلم: لا في المد الثوري ولا في الجزر الثوري.
ستظل المظاهرات والإضرابات العمالية والاعتصامات “حلول وسط” طالما لم ترفع شعار الثورة الاجتماعية وتقود الجماهير من أجل نظام اجتماعي مغاير. فهل نرفض المشاركة في أي مظاهرات أو اعتصامات إلا إذا كانت تطرح الحد الأقصى لآمالنا؟ هل يجب على الثوريين عدم التضامن مع الإضرابات العمالية التي ترفع مطالب من قبيل تحويل تبعية العمال من مقاول من الباطن إلى الشركة المؤجرة للميناء نفسها، أو تثبيت معلمي الحصة، أو صرف الأرباح المتأخرة لعمال البروبيلين، حتى يرفعوا شعارات ثورية “حقا”!؟ على العكس، نحن ندخل كل هذه المعارك “الجزئية” والصغيرة والتي تبدو في ذاتها “حلولا وسط” أو إصلاحات صغيرة جدا لأن طريق الثورة يعبده النضال من أجل الإصلاحات الجزئية مع الاحتفاظ بالهدف النهائي دائما نصب الأعين.
"الثورة في الشارع"
أين الثورة إذا كانت الثورة فقط في الشارع؟ كيف تترك “الثورة في الشارع” مواطنا يحبس لخمس سنوات لأنه يعتنق المذهب الشيعي للدين الإسلامي، أين هي “الثورة في الشارع” من القاضي الذي يحكم على 680 مواطنا بالإعدام في ثماني دقائق؟ أين الثورة من ضرب الطلاب داخل الجامعات، في الساحات وقاعات المحاضرات، بالرصاص الحي؟ أين الثورة من محاصرة قوات الجيش لعمال ميناء السخنة؟ لماذا لا تذهب “الثورة” لفك حصارهم؟ لأن “الثورة” في غاية الضعف الآن. والسؤال هو: هل نتوقف عن معارضة نظام مبارك / السيسي تماما إذا كانت الثورة بهذا الضعف؟ أم أن علينا أن ندخل كل المعارك التي نستطيع دخولها، بغرض تقوية الثورة وإضعاف الثورة المضادة؟
أما إذا كانت عملية التصويت نفسها ليس فيها بالنسبة لك ما يحمسك مثل المظاهرة، فهي بطيئة، مملة، آمنة، ليس فيها مواجهة مع الدولة، وليس فيها من سمات “الثورة” التي شهدناها في معظم المظاهرات والاعتصامات في الثورة، فجرب أن تنزل لتوزيع منشورات حملة حمدين صباحي، أو وزع منشورات ضد السيسي في الشارع، وسوف تؤكد لك الدولة والمواطنون الشرفاء ثورية ما تفعل!
"مش ح أعصر لمون تاني!"
أول ملمح من ملامح هذا المنطق: أنه منطق فردي صرف. وهو لا علاقة له إذن بمصلحة الثورة ككل ولا موازين القوى بين الطبقات المختلفة أو التحضير لبناء جبهة تدافع عن الاحتجاجات في مواجهة ثورة مضادة عاتية تأتي بقائدها رئيسا للبلاد. هذا منطق فردي بامتياز. سمعت نفس الحجة أيام مرسي/شفيق في أجلى صورها في العبارة التالية: “أعرف أننا يجب أن نفعل كل ما بوسعنا لوقف شفيق، حتى لو اضطررنا إلى التصويت لمرسي، ولكني أعلم أني لو صوتّ لمرسي لصحوت في اليوم التالي لا أطيق نفسي!” هذا هو الخلاصة الصافية لهذا المنطق الفردي. والرد عليه هو أن نفسرها ونبرز منطقها اللامبالي: أعرف أن انتخاب مرسي أفضل من وصول شفيق إلى الحكم ولكني أنا شخصيا لن ألوث يدي بالتصويت من أجل هذه النتيجة. دع الآخرين يلوثون أيديهم من أجل الثورة إن أرادوا. أما أنا فلا!!
"ماذا استفدنا من عصر اللمون من قبل؟"
هذا منطق آخر. والإجابة باختصار: استفدنا أن الثورة لم تنته وتُقتل في يونيو 2012 لو كان مرشح الدولة، آخر رئيس وزراء لحسني مبارك، انتخب رئيسا للبلاد. لقد أعلن الرجل أن الثورة للأسف نجحت، وأنه سيستدعي الجيش ليقضي على أي اعتصام أو تظاهر في التحرير. انتخاب شفيق كان سيكون إعلانا لوفاة الثورة. ولكنها امتدت لمدة عام بعد ذلك التاريخ وتعمقت كما لم تتعمق منذ بدأت، وبلغت الاحتجاجات أرقاما تاريخية قياسية: احتجاجان كل ساعة! واحتفلت الجماهير بإسقاط مرسي الرئيس المنتخب في الليلة السابقة على نزول الشوارع!
لقد قلنا ساعتئذ إن مرسي “مرشح الضرورة” في مواجهة الثورة المضادة السافرة والتصويت لعودة نظام مبارك بأشخاصه. قلنا إن انتخاب شفيق سيحبط الطبقات الاجتماعية التي قامت بالثورة، وعلى العكس فإن انتخاب مرسي سيرفع من توقعاتها. وكان. وعلى عكس من كان يروج الأوهام حول عدم القدرة على زحزحة الإسلاميين حالما وصلوا إلى الحكم، قلنا إن مرسي يمكن إسقاطه إذا انتخب. وكان. وقلنا إن انتخابه سيعمق الثورة. وكان.
ولكن للأسف، لم يؤد إسقاطه إلى تعميق الثورة، بل إلى وأدها حية على يد الجيش الذي بايعته معظم القوى السياسية التي شاركت في 30 يونيو (ولا يمكنني في هذا السياق إلا أن أذكر بموقفنا في ذلك الحين الذي تلقينا بسببه كالعادة وابلا من السباب والاتهام “بشق الصف الثوري” عندما دعونا في بياناتنا السابقة على 30 يونيو إلى تشكيل تكتل سياسي يعارض الدعوة لتولي الجيش بعد إسقاط مرسي، والدفع باتجاه تحقيق مطالب الثورة، والدعوة إلى إضراب عام، والاعتصام في الميادين). ولكن يبدو أن معظم من كان قد “عصر اللمون” من قبل قد خرج بالدرس الغلط. وعدنا إلى المسار الذي كان انتخاب شفيق سيضعنا فيه: والآن جربوا أن تقولوا لضابط شرطة: وريني الكارنيه!
معيارنا في انتخاب رئيس
وفي سياق عصر اللمون أيضا ينبغي أن أشرح موقف الماركسيين الثوريين تاريخيا من اختيار رئيس الدولة: نحن لا نختار ممثلا لنا، ولا نختار من “يستحق إنه يمسك بلد بحجم مصر وقدرها”، ولا عمرنا فكرنا في عصر اللمون بمنطق أن هذه هي نتيجة الثورة النهائية ونختار رئيسا أتت به ثورة يناير: إن المعيار الذي يتوخاه الماركسيون الثوريون في اختيارهم من يصوتون له هو كيف ستؤثر نتيجة هذه الانتخابات على إمكانية النضال من أجل الثورة الاجتماعية وتغيير المجتمع والدولة ككل. هل انتخاب فلان سيؤخر الثورة، هل انتخاب فلان سيقضي على الثورة تماما؟ هل انتخاب فلان سيسمح بإمكانيات للنضال ضده أم لا. وأقولها ثانية: هل انتخاب فلان سيسمح بإمكانية النضال ضده وتنظيم العمال وتنظيم الاحتجاجات أم لا؟ وقد كان هذا جزءا من منطقنا في الدعوة للتصويت ضد شفيق ولصالح مرسي، ويعد جزءا من منطقنا في الدعوة للتصويت ضد السيسي ولصالح حمدين.
"لا فرق بين حمدين والسيسي"
واستكمالا لمنطق “أنا مش ح أعصر لمون تاني”، تأتي حجة أن لا فرق بين الاثنين، أو أن لا فرقا كبيرا بينهما. وهذا في وجهة نظري أخطر الحجج وأكثرها ضررا. وذلك لأن عدم التفريق بين الإصلاحي، مهما كان متذبذبا أو متراوحا، وقائد الثورة المضادة يأتي في صالح قائد الثورة المضادة، ويقلل من خطره إلى أقصى حد. أن تمحو الفارق بين من وضع قانون منع التظاهرات ويعتقل الثوار على أساسه ويطلق النار على التظاهرات السلمية بذريعته، وبين من يطالب بإلغاء هذا القانون ويطالب بإطلاق سراح معتقلي الثورة، يُعد مساندة للأول. أن تقلل من شأن من يطالب بعودة الشركات المخصخصة إلى القطاع العام ومن كان مديرا للمخابرات في عهد مبارك يحمي نظامه ويحمي شخصه ويصارحنا الآن، حين يحنو علينا بكلامه، بأننا جميعا سندفع ثمن كل ما نحصل عليه، ومن بالفعل أصدرت حكومته، وأعني حكومته، قانونا تمنع الطعن في فساد العقود التي تبرمها مع رجال الأعمال، لا يصب إلا في صالح من برنامجه حماية الفساد وزيادة استشرائه.
هذا المنطق فاسد في أساسه وفي تبدياته. سيظل هناك فارق كبير حتى بعد الانتصار النهائي للثورة الاجتماعية بين الإصلاحيين وأعداء الثورة الصراح (وهم غالبا ما يأتون من صفوف جيوش النظام).
يجب على الثوريين الاصطفاف مع الإصلاحيين في مواجهة الثورة المضادة السافرة. يجب أن نعرف أن الإصلاحيين هم منافسو الثوريين على وعي الجماهير وعلى تنظيمهم، ونمو التنظيم الثوري وانتشار الأفكار الثورية تعني إزاحة الوعي الإصلاحي في صفوف الجماهير، ولا سيما الطبقة العاملة؛ بينما الدولة هي عدو الثورة، وهي عدو الإصلاح في ذاته. يجب أن نفرق بين المنافس والعدو.
"حمدين هلل لجرائم السيسي"
يقول بعض الرفاق من أخلص الثوريين إن المشكلة في حمدين صباحي ليس أنه إصلاحي ولكن أنه هلل للسيسي من قبل، وبارك مذبحة رابعة، ولا يزال في منافسته السيسي يأتي بكلمة نقد، من طرف خفي، يتلوها كلمتان من الغزل السياسي. وهذا صحيح. ويجب ألا نغطي على هذه الأخطاء الكبرى أو نتوقف عن نقدها.
حمدين صباحي ليس ثوريا بمقاييس الاشتراكيين الثوريين. هو يريد إدخال بعض الإصلاحات في الدولة تصب في النهاية لصالح الطبقات المتوسطة. وهو، لانتمائه الطبقي فكريا وسياسيا وإيمانه بنموذج التنمية الدولتية، من الطبيعي أن يتذيل إحدى القوى الأساسية في المجتمع: يعلو مع مد الثورة ويهبط ويتذيل السيسي مع جزرها.
وأسوأ ما يفعل الثوري هو أن “يرسم الإصلاحيين باللون الأحمر” – أي أن نضفي عليهم من الثورية ما ليس فيهم. ولكن لا يمكن أن نتغافل عن أن التحالف الواسع الذي دعم “خارطة الطريق” قد تشرّخ بسبب ممارسات الثورة المضادة وبدأت هذه الشروخ تظهر في الانتخابات. فنجد التحالف الشعبي الاشتراكي والدستور والكرامة وراء حمدين صباحي في مواجهة السيسي. بل إن “تمرد” نفسها انشقت على نفسها وذهبت قياداتها الأكثر انتهازية وراء السيسي، جناحا “شبابيا”، والكثير منها وراء حمدين ويعارضون العسكر في الحكم.
نحن ندين موقفه من مذبحة رابعة، كما ندين كل من تواطأ وتعامى عنها، من يساريين وليبراليين جميعا. والكل يعرف أننا، الاشتراكيين الثوريين، أدنّا تلك المذبحة في وقتها، ورأيناها جزءا من الثورة المضادة. ولكننا أيضا لا يجب أن نمحو الفارق بين من قام بالمذبحة وبين من سكت عليها. هذا يعيدنا مرة أخرى إلى منطق “من قتل الثوار في محمد محمود ليس بأسوأ ممن قال علينا بلطجية في ذلك الحين.” طبعا الفارق كبير.
وهنا نأتي إلى أهم فارق بين الاثنين، وهو القوى الاجتماعية والسياسية التي يمثلها كل منهما. وهو ما لا يمكن التعامي عنه. السيسي يمثل ويجسد وحدة الطبقة الحاكمة في شخصه (ومن ثم تأليهه مهما ضؤلت مواهبه وتوارت قدراته!)، ويمثل المخابرات بجميع أنواعها والأجهزة الأمنية، وبيروقراطية الدولة، والقضاء الفاسد، وكبار رجال الأعمال، والمسؤولين الفاسدين، وشبكات احتكار قوت الشعب، وشبكات البلطجية / المواطنين الشرفاء التي طالما استعملتهم الشرطة في حماية الدولة، وفلول مبارك أجمعين، و”خبراء” مبارك كلهم، والطبقات العليا جميعا التي أصابتها الثورة بصدمة سياسية حادة من يومها الأول وملأتهم رعبا من القوى الشعبية التي سيطرت على الشوارع ورفعت شعارات معادية لها بشكل مباشر “عيش حرية عدالة اجتماعية”، وشرائح الطبقات المتوسطة التي أنهكتها الثورة ولم تقدم لها شيئا، وأصحاب المحال والبرجوازية الصغيرة التي خسرت من عدم الاستقرار الذي صاحب الثورة. السيسي يمثل تحالفا سياسيا بين شبكات الحزب الوطني وقيادة الجيش والأجهزة الأمنية والسلفيين ممثلين في حزب النور. كل هؤلاء يريدون عودة الحال إلى ما كان عليه؛ ولكن هذا الحال لن يعود دون القتل والتقتيل. فعودة نظام مبارك بعد ثورة يناير ثمنه الدم. ولا لبس لديهم جميعا في ذلك. وأول من يعرف ذلك قائدهم وممثلهم.
حمدين صباحي يمثل بعض شرائح الطبقات المتوسطة الراغبة في تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية ربما تحسن من أوضاعها. ويتوجه حمدين بخطابه إلى الثوريين و”الغلابة” بوجه عام والعمال والفلاحين والصيادين واعدا إياهم بإصلاحات مباشرة محاولا أن يكون ممثلا لهم طالبا أصواتهم ومساندتهم.
كيف يساوي أحد بين الاثنين؟
كيف نقول إن المنافسة بينهما، ولو على صوت واحد، معركة لا ناقة لنا فيها، كثوريين، ولا جمل!؟
إن مثل هذا المنطق يصب حتما في مصلحة السيسي ويقوي الثورة المضادة، بصرف النظر عن عبارات الرطانة الثورية، وبغض النظر عن حسن النوايا.
الوقوف في وجه السيسي واجب ثوري
يجب على الثوريين الوقوف في وجه انتخاب السيسي، وتأييد منافسه الإصلاحي تأييدا نقديا، والاحتفاظ بحق نقده في كل لحظة وعلى أي مستوى، ومحاولة دفعه إلى تبني مطالب الثورة الأكثر راديكالية في هذه اللحظة. إن القعود عن هذه المعركة ترسيخ لبطش القيصر الجديد، واستسلام كامل أمام انتصار الثورة المضادة.
إن حصول المرشح الإصلاحي على نسبة معتبرة من الأصوات في مواجهة قائد الطبقة الحاكمة سيعتبر خطوة صغيرة جدا إلى الأمام في معركة تدافع فيها الثورة عما تبقى من روحها. ستكون هذه النسبة من الأصوات غصة في حلق الديكتاتور الكبير، وربما نقطة انطلاق لتشكيل معارضة قوية لحكمه.
إن استبداد السيسي بالحكم ليس نهاية التاريخ، بل هو بداية جديدة. وسوف تنقشع عنه الهالة التي رسمتها الأيادي والعقول التي تبحث عن مخلص، وسوف تعرف الطبقة العاملة والجماهير الكادحة من عدوها الأول، ليس من خلال الدعاية ضد السيسي فحسب (وبالتأكيد ليس من خلال مقاطعة الانتخابات)، بل من خلال تجربتها الخاصة في ظل حكمه وتحت نير سياساته التي أجبرتهم مثيلتها على الثورة من قبل، وعندئذ إذا سئلتم أيها الثوريون لماذا لم تعارضوا انتخاب السيسي ولماذا لم تحذروا من انتخابه وتساندوا بديلا له، أتمنى ألا تردوا “لم نكن نرى بينه وبين الإصلاحيين فرقا”
[عن صفحة "الإشتراكي"]